عندما تسقط فتجزم ألاّ نهوض، وتنزل لدرجة يصعب معها الصعود، فلا تجد لنفسك عزما، و لا قوة و لا فهما،، هنا.. تقرر ألاّ تعود، و توقن بانتهاكك للعهود، فتولي الأدبار تاركا، النور إذ أصبح خافتا، فتدفن قلبك الذي مات، و تشتغل أنت بالتفاهات، و لكن القلب المدفون تحرك، فنفض عنه التراب و استدرك، فبرز سر واحد جبار، ينقذ القلوب قبل أن تنهار ..انه الإصرار. إصرار رغم الخطأ و الزلة، إصرار رغم الهوان و الذلة! إصرار حتى الوصول، إصرار حتى القبول..

الأحد، 18 نوفمبر 2012

في عيد الاستقلال..ليت الاستعمار يعود يوما !



اليوم عيد الاستقلال. احتفل به جوجل و لم يأبه به المواطن المغربي ، لأنه ببساطة صادف عطلة نهاية الأسبوع فلم يغنم منه بتلك الإجازة الرسمية التي وحدها تجعله يعبر عن فرحته بهذه المناسبة المجيدة التي تخلد ذكرى خروج المستعمر من الأراضي المغربية .


حسب تفسيري، هذه اللامبالاة راجعة لكون هذه الذكرى في جوهرها لا تخلِّد استقلال من المستعمِر و لكنها تخلد في الحقيقة الاستقلال من الوطن ! كيف ذلك؟؟


 على الأقل في فترة الاستعمار كان المواطن يدرك عدوه الحقيقي، هذا الذي يحمل في وجهه السلاح و يرغب في استنزاف خيراته و طاقاته، فيمارس ضده كافة أنواع المقاومة .. بينما اليوم أصبح نفسه - العدو- الحبيب و القدوة و المثال، في قالب استعمار ناعم يسلب الهوية و يكرس التبعية المطلقة  في كافة المجالات دون اطلاق رصاصة واحدة.

فعندما نجد المفكر المغربي مهدي المنجرة يصرح قائلا أن :  أن تاريخ المغرب مرتبط بالاستعمار، وماضيه ليس بأيدي أبنائه، والتأريخ له هو مخزني بامتياز، أما حاضر المغرب فهو بيد غير المغاربة ولا يتحكمون فيه، أما مستقبل المغرب فهو محدد من طرف الغير وفي إرشادات وتوصيات تبلور خارج المغرب ومن طرف غير المغاربة
فإننا نشعر بحنين صادق لزمن الاستعمار، حيث اتقن رجالاته فن المقاومة ، فنجد عبد الكريم الخطابي واحدا من هؤلاء يقول :   السلاح الحقيقي لا يُستورد من هنا أو هناك، ولكن من هنا (يشير إلى العقل) ومن هنا (يشير إلى القلب) !


أعتقد أن عيد الاستقلال هذا مناسبة جيدة لنتفكر في كم أننا مستعمرين .
 في كم أننا نتطلع إلى ذالك الذي اغتصب أراضينا و قتل أجدادنا في كثير من الاعجاب 


 في كم أنه –في المقابل-  يستصغرنا و ينظر لنا باحتقار..
في كم أننا مهما حاولنا أن نصنع لنا مجدا يشبهه فلن نكون لا نحن نحن و لا نحن هو
 سنكون فقط شعبا  يستهلك منتجات لا ينتجها و يلوك لسانا لا يشبهه و لا يحتفل بأعياده الوطنية !

السبت، 4 أغسطس 2012

مفاهيم ملتبسة.. الحضارة والنهضة والتنمية والمدنية والتقدم





  • الحضارة:
عندما نتحدث عن الحضارة فنحن بصدد الحديث عن الهُويّة الخاصة بمجتمع ما، طريقته الخاصة في العيش، ومجموع القيم و النظم التي تميزه عن باقي المجتمعات. فأي جماعة من الأفراد تعيش ضمن مجتمع واحد إلا  و لها مكتسبات قيمية و تنظيمية تكوّن من خلالها حياة مشتركة لها مميزات تظهر على مستوى الجماعة، و تشكل في مجموعها معالم الحضارة. و رغم أن هناك من يعتبر حتى الجماعات الأكثر تخلفا تمتلك حضارة خاصة بها[i]، إلا أن مفهوم الحضارة يظل مرتبط في نشأة اصطلاحه بالتمدن، إذ أننا نجد أن “الحضارة” استعملت بمعناها الاصطلاحي  لأول مرة في القرن السابع عشر في فرنسا “civilisation” ، وهي مشتقة من كلمة “civilisé” أي متحضر، و يقصد بها مجموع الظواهر المميزة للحياة التي بناها الإنسان المدني[ii]. وهناك من يجعل حدا فاصلا بين الحضارة و الثقافة كأنهما ضدان متنافران  و ذلك بإعطاء الحضارة صفة المدنية المادية البحتة ، إلا أنه في اعتقادي، الثقافة تشكل جزء لا يتجزأ من الحضارة؛ إذ يمكن أن نصادف حضارتين مختلفتين تمتلكان نفس القوة و الزخم على مستوى النُّظم المَدنية ، و لكن تظل لكل منهما ثقافتها الخاصة التي تظهر آثارها حتى على مستوى العمران، فينطق الحجر الأَصم مُعربا عن حضارة متفردة و متميزة عن غيرها من الحضارات.
و رغم هذه الخصوصية التي تتميز بها الحضارة، إلا أن مفهومها يظل عاما و شاملا، و يبدو ذلك جليا في نظرة مالك بن نبي عندما وصفها “بمجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد في كل طور من أطوار حياته المساعدة الضرورية” [iii]، و من هنا نتبين الشقين المعنوي[iv] و المادي اللذين تتميز بهما.
وبالتالي أستطيع أن أكتب تعريفا مختصرا بحيث تكون الحضارة هي:
حالة من الارتقاء في سلم التاريخ الإنساني تحدث في مجتمع ما، و ذلك من خلال مجموع النظم المادية و القيم المعنوية التي يسير وفقها و التي يتميز بها عن غيره من المجتمعات. 
  • النهضة:
عرّفنا الحضارة أعلاه، و لكن ما لم نقله عنها أنها تجليات النهضة و نتاجها. فإذا كانت الحضارة بناء فكري و مادي يحدث في أمة من الأمم، فإن “عملية النهوض” هي الطريق المؤدية لهذا البناء، فالنهضة هي حركة دينامكية واسعة تطرأ على مستوى الوعي و الفعل تُخرج أمّة من الخمول و الركود إلى الحركة و التغيير المؤَسّسين على إدراك تاريخي عميق و رؤية إستراتيجية مستقبلية واعية. و من خلال الأفكار التي يطرحها الدكتور جاسم سلطان يظهر لنا أن النهضة تأتي بعد مرحلة الصحوة ثم اليقظة[v]؛ الصحوة التي تصحو خلالها روح الانتماء إلى الأمجاد و التاريخ، و تعتريها عاطفة قوية تـنزع نحو التحرك المندفع، ثم تليها اليقظة التي تُوجه هذه العاطفة المندفعة بإدراك و فهم راشدين، لتتوج بعد ذلك هذه المراحل بنهوض حقيقي يتجلى في بناء فكري عميق يليه بناء فعلي في مختلف المجالات و الميادين.
و لأنني لا أريد الخوض كثيرا في التاريخ الاصطلاحي لكلمة نهضة الذي ظهر في إيطاليا مع بداية القرن التاسع  عشر تحت مسمى Renaissance و انتشر في أوروبا في حركة لإحياء التراث العلمي و الفني للإغريق و الرومان[vi]، فقط أكتفي بالإشارة إلى أن أغلب المحاولات العربية لتعريفها ظلت متأثرة بالجدل الحضاري مع الغرب و لم تكن مبنية في مجملها على تأصيل منبثق من الثقافة الذاتية[vii] ، و لقد كان ” شروط النهضة” الذي قدمه مالك بن نبي سنة 1949  يقدم مقاربة مختلفة عما قدمه المفكرون و الكتاب في هذا الصدد، حيث اعتمد على معيار عملي شرطي للإجابة على سؤال النهضة و ذلك باعتماد نفس الإستراتيجية الغربية في تنقيح التراث القديم ، أي أنه استفاد من الإستراتجية و لم يعتمد على المحتوى الفكري، وبهذا أعتقد أنه كان موفقا في إتباع منهجية تقبل الانفتاح على الآخر دون الذوبان في أفكاره.
و لكي أصوغ النهضة في كلمات إذن، يمكن القول بأنها:
حركة دينامكية فاعلة تطرأ على مجتمع عانى من الخمول و الركود لأمد طويل، تستمد قوتها من عبق التاريخ المتألق، و تُأسس فِعلها بفكر مبصر متفوق، و تُنبت ثمارها في كل ميدان بشكل متدفق.
  • المدنية:
المدِينة.. تلك البؤرة التي تمردت على الطبيعة ! و سلـّطت يدها على الحجر و الشجر و الرياح و المطر، و جعلت الآلة تتحدى كل يوم الكون، مرة بالنفع، و أخرى تعيث فيه فسادا..
مِن المدينة تلك، جاء مصطلح المَدَنِية الذي يصف هذه الحركة الدءوبة من فعل الإنسان في تحدي الطبيعة، في استنزاف معدنها و خيراتها حينا، و في محاكاة فعلها بآلة اخترعها حينا آخر.
عملية التمدن هي عملية عامة لا تحتمل الخصوصية في مجملها[viii]، ويمكن أن تنتقل بين المجموعات البشرية دون أن تأثر على خصوصيتها الحضارية . إذ يمكن أن نجد حضارات متشابهة في تكنولوجياتها، مختلفة جدا في تكوينها الاجتماعي و دينها و فنها[ix]. فكيف ذلك إذن و المدنية هي جزء لا يتجزأ من الحضارة؟؟
سبق و ذكرنا أن الحضارة تتميز بخصائصها الثقافية و المادية في آن واحد، و الثقافة هي التي تجعل منها تحمل طابع الخصوصية، بينما الجانب المادي و المتمثل في المدنية، فهو عام، إذن يمكن إسقاطه على جميع الأمم، وأي تقدم في مجال البحث العلمي أو الاختراع التقني أو الصناعي هو قابل للانتشار بين بني البشر دون الرجوع إلى سؤال الثقافة أو الهوية.
فالمدنية إذاً هي:
مجموع الوسائل و النظم المادية التي توصلت إليها البشرية في مجال العلم و التكنولوجيا لتسهيل الحياة الحديثة دون أن تحمل طابعا ثقافيا معينا.
  • التقدم:
التقدم هو صفة لا يمكن لصقها بأمة إلا إذا ما قورنت بأخرى، فهي متقدمة على كذا و كذا من الأمم الأخرى. و التقدم يخضع في تقييمه لمعايير مادية بالأساس، فالدولة المتقدمة هي التي تملك اقتصادا قويا، تطورا علميا و صناعة متفوقة، كل هذا يضمن لها تبعية أمم أخرى أقل كفاءة منها، و بالتالي يكون لديها حضور على مستوى القرار السياسي في المحيط الخارجي بحسب درجة الهيمنة التي يفرضها تقدمها. و من الضروري أن نشير إلى أن مفهوم التقدم لم يكن يخضع لنظرية عامة تظم كل البشر، بل كان لكل حضارة معايير تقدمها حسب منطلقاتها و مقدساتها الخاصة، ثم خضع “للعلمنة” في عصر النهضة الأوروبية حين سيطرت النظرة المادية الواحدية للكون على الإنسان الغربي.و لأن الإنسان الغربي هو المتقدم، خضع العالم “المتخلف” حتى لفهمه لمفهوم التقدم ذاته، و لقد تأثر كثير من المفكرين العرب بهذا الطرح الغربي المادي لدرجة اعتبر بعضهم التقدم هو مرادف للحداثة الغربية.
 و إذا كان هذا الفهم السائد للتقدم في عصرنا الحالي، فإن التقدم التي نرتجيه لنهضتنا الحضارية الإسلامية هو تقدم مادي و أخلاقي على حد السواء، فلا تستبد التقنية على حساب المبادئ الإنسانية و لا يطغى الاقتصاد على الأخلاق و القيم. و بذلك يكون التقدم المنشود هو:
رقي تشهده أمة وسط الأمم الأخرى في المجال العلمي و الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي، وذلك فق معايير تحترم قيمها الأخلاقية و الدينية.
  •  التنمية:
نما نموا يعني الزيادة في الشيء، إذا كان هذا هو المعنى اللغوي الذي تنبثق منه التنمية، فإن معناها الاصطلاحي برز بداية في عالم الاقتصاد، حيث خضع هو الآخر لمقاييس مادية محضة في التقييم، و ذلك راجع للهيمنة الغربية التي كان لها السبق في وضع مؤشرات التنمية انطلاقا من منظور اقتصادي. بعد ذلك بدأ يبرز هذا المفهوم في مجالات أخرى مثل التنمية الاجتماعية و من ثم التنمية البشرية و غيرهما.. لكن هذا المفهوم ظل منحصرا في رؤيته المادية الضيقة، وغدت حتى التنمية البشرية ليست سوى استثمار للإنسان من أجل إحداث تنمية اقتصادية[x]. و من الغريب فعلا أن الدول الإسلامية المندرجة ضمن دول العالم النامية، ظلت تحت هذا الوصف لثلاث عقود طويلة دون أن تتزحزح عنه مما يجعلني أعتقد أن تبني المفهوم التنموي الغربي و تطبيقه في الدول الإسلامية يعد من بين أسباب تخلف هذه الأخيرة، أولا لأن التنمية بالمفهوم الغربي كما تبين قاصرة في شموليتها ، و ثانيا لأن التنمية عملية تخضع للخصوصية المحلية، و بالتالي فإن مفهومها يجب أن ينبثق من المجتمع الذي تمارس فيه. و لقد وضح الدكتور جاسم سلطان الفرق بين التنمية و النهضة و بين تكاملهما من أجل البناء الحضاري عندما قال: “أن مفهوم النهضة هو مفهوم الحراك الاجتماعي لعصر ما نحو الفعالية الحضارية، وأن مفهوم التنمية في الفكر الأوروبي هو مفهوم يقتصر على الجانب الاقتصادي و مؤشراته، و نستنتج أن السعي نحو الحضارة يشمل عملية الحراك النهضوي، و يشمل عملية التنمية الاقتصادية من أجل إحداث فعل حضاري”[xi]
و بالتالي يمكن أن نجمل مفهوم التنمية في كونها :
عملية مستمرة تتم في مجتمع ما بهدف تطوير حياة الفرد و المجتمع، و ذلك وفق سياسات عامة تنبثق من حياة ذلك المجتمع و قناعاته، و تعتمد على توحيد الجهود الحكومية و الأهلية.

  1. [i]  ”يرى موريس كروزيه أنه حتى الأقوام المتوحشة لها حضارات خاصة بها”| تاريخ الحضارات العام / م1/ ص18
  2. [ii]Littré. Dictionnaire de la langue française
  3. [iii] “مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي” لمحمد العبدة.
  4. [iv]  أقصد بالشق المعنوي، مجموع القيم و المبادئ و الأخلاق سواء كانت منبثقة من عقيدة دينية أو فكرة فلسفية.
  5. [v]  أنظر “من الصحوة إلى اليقضة” استراتيجية الإدراك للحراك| الدكتور جاسم سلطان. من ص 42 إلى ص 46
  6.  [vi]  حسب الدكتور عمر مسقاوي في مقال له بعنوان “ولادة النهضة في فكر مالك بن نبي” نشر في الحياة بتاريخ 07/06/23.
  7. [vii]   يفصل ذلك الباحث المغربي الطيب بوعزة في مقال له بعنوان “في تجديد سؤال معنى النهضة” نشر على الجزيرة.
  8. [viii]  أقول – في مجملها- لأن هناك من يتحدث عن المدَنية الخاصة، كالملبس الذي تتوفر فيه شروط التمدن و يتميز بالخصوصية الثقافية.
  9. [ix]   رأي “رالف لينتون”  نقلا عن مقال ” الحضارة و المدنية و الثقافة” لـعبد الله المقدسي. بتاريخ 08/07/18 جريدة الرأي الإلكترونية.
  10. [x]عند هيجنـز (Higgins) ، التنمية هي: «عملية استثمار إنساني تتم في المجالات أو القطاعات التي تمس حياة البشر  مثل التعليم والصحة العامة والإسكان والرعاية الاجتماعية…الخ، بحيث يوجه عائد تلك العملية إلى النشاط الاقتصادي الذي يبذل في المجتمع» نقلا عن عمر عبيد حسنة: “مفهوم التنمية”
  11. [xi]  انظر من الصحوة إلى اليقظة | إستراتيجية الإدراك للحراك، الصفحة 20

الأربعاء، 18 يوليو 2012

تَفعيل الأفكار واقِعيًّا




سأضرب مثالا قد يبدو للوهلة الأولى بعيدا تماما عن السياق، لكنه يوضح الرؤية التي أود الانطلاق منها؛ عندما نحتار بين فكرتين و لا ندري أيهما الأصلح لنطبقه في واقعنا، نلجأ إلى الله في الاستخارة فنقول: “اللهم إنا نستخيرك بعلمك و نستقدرك بقدرتك” و هنا يتبين لنا الشقين الأساسيين في هذا الدعاء النبوي المعجز.
الشق الأول، نستخيرك بعلمك ؛ هنا لجوء إلى علم الله من أجل اختيار “الفكرة الصالحة”، و لكن لماذا لم ينتهي الدعاء إلى هنا و تمت إضافة الشق الثاني، “نستقدرك بقدرتك” ؟ أليس اللجوء إلى علم الله من أجل “امتلاك” الفكرة الصالحة كافيا؟ ما فائدة امتلاك الفكرة الصالحة إذا لم تتحول إلى واقع معاش إذن؟
إنها القدرة.. القدرة هي التي تجعل من هذه الفكرة واقعا مُفَعّلا ملموسا !
و بعيدا عن القدرة الإلهية المطلقة، و التي لا يُعجزها شيء في الأرض و لا في السماء، نتطرق إلى قدرة الإنسان النسبية و التي من خلالها يستطيع تفعيل أفكاره واقعيا، هذه القدرة التي تتميز بخصائص كثيرة متشابكة فيما بينها أحاول توضيحها حسب ما توصل إليه تأملي، و أقسمها بذلك إلى صنفين:
  • قدرة الإنسان الروحية: و هي مرتبطة بكيان الإنسان الداخلي و بتفاعله الروحي مع الفكرة محل التفعيل.
  • قدرة الإنسان المهراتية: مرتبطة بملكات و مهارات الإنسان وبتفاعله مع الواقع الذي هو مجال التفعيل.
وانطلاقا من هذه الخطاطة التي حاولت من خلالها تلخيص الكيفية التي يتم بها تفعيل الأفكار و العوامل المساعدة على ذلك، يظهر بوضوح أن بعض العوامل مرتبطة بتفاعل الإنسان مع الفكرة و البعض الآخر مرتبط بتفاعله مع الواقع. إذ لا يمكن تفعيل فكرة في واقع ما دون مراعاته و دراسة حيثياته و امتلاك أدواته، كما أن مراعاة الواقع و التمكن منه لا تغني عن ضرورة  تشرب الفكرة و التفاعل معها روحيا.
أسرد العوامل إذن، كما وضحتها في الرسم مع شيء من التفصيل:
  • العوامل المتعلقة بالتفاعل مع الفكرة محل التفعيل:
-    الإيمان بالفكرة:
امتلاك الفكرة، بمعنى العلم بها، معرفتها و الوعي بها ليس كافيا، إنما تحتاج الأفكار إلى إيمان ! ذلك الإيمان الذي يجعل من الأفكار جزء لا يتجزأ من كيان الإنسان، ذلك الإيمان الذي يشكل منها قناعة لا تتزعزع و جوهرا لا يتلاشى و لا يغير الوجهة إذا ما غيرتها رياح الواقع، فهي تظل ثابتة صلبة في مكانها، عميقة بما يكفي كي تتمثل واقعا في جوارح الإنسان الذي لن يكون أمامه سوى الاستجابة لروحه..
ولقد عبر عن ذلك الدكتور أديب الدباغ بشكل ممتاز عندما قال: “عندما لا يملأك الشعور بأن دعوتك هي قلب الكون، و روح الوجود، و أنها صمام أمن و أمان له، فكيف تواتيك الشجاعة لمواجهة العالم كله؟ !”[i]
-    الحماس لها:
الحماس هو وليد الإيمان و الاعتقاد الشديد بالفكرة ، و لا يمكن التعويل على تفعيل فكرة ما إذا لم يتوفر الحماس لها، فهو كالوقود الذي يحرك عجلة العمل، و يبث روح الإقناع ، ولهيب كلمات إنسان متحمس هو الذي قد يغرس إيمانا بالفكرة في قلوب أخرى غير قلبه، و حماسه هو الذي ينشط جوارحه كي تكدح و تعمل في سبيل تفعيلها.
-    علو الهمة و قوة العزيمة:
قد يؤدي الحماس إلى رفع الهمة، و لكن الهمة العالية وحدها من يجعل من الحماس مستمرا و ليس مرحليا آنيا فقط. الهمة العالية هي جوهر الفعل الإنساني، هي الرصيد الذي يضمن الأمد الطويل للفكرة، وكما قال ابن الجوزي فإن  الهمة خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل[ii].  أما قوة العزيمة فهي التي تولد الإصرار و تساعد على تخطي العقبات.
  • العوامل المتعلقة بالتفاعل مع الواقع مجال التفعيل:
-    فهم الواقع و التأقلم معه:
في الخطاطة أعلاه، بينت أن الواقع يتكون من ثلاث أسس؛ المكان/الزمان/الإنسان، و هي كلها أمور متغيرة لا يمكن أن تخضع للتعميم، و لذلك فهي تحتاج إلى فهم، ثم إلى تأقلم.
إذ لا يمكن أن نشرع في تفعيل فكرة ما في بيئة ما، دون مراعاة العوامل المكانية و الزمنية و الإنسانية، فهناك أفكار تكون صالحة لمكان ما، و غير صالحة في غيره، و هناك منها ما كان مناسبا لعصر من العصور، و لم يعد كذلك، و هناك من الأفكار ما يمكن تطبيقه على شريحة إنسانية ذات فكر وثقافة محددين، في حين أن تطبيقها على أناس آخرين قد لا يكون مناسبا.
و لذلك فإن فهم الواقع بأبعاده الزمنية والمكانية و الإنسانية فهما عميقا عبر دراسته دراسة متأنية و ممحصة، يبدو في غاية الأهمية قبل الشروع في عملية التفعيل للأفكار فيه.
وبعد الفهم و الاستيعاب الجيدين للواقع سيكون لابد من التأقلم، ومن المؤكد أن ما أقصده بالتأقلم ليس هو تصغير حجم الفكرة لتحاكي الواقع، أو تشويها كي تتناسب معه.. ما أقصده بالتأقلم هو المرونة في الطرح .فأي فكرة في تصورها النظري لن يتم تنزيلها واقعيا إذا ما سلكت طريق الجمود، فالواقع يتطلب نوعا من المرونة و القابلية للتغيير أحيانا، و للتنازل أحيانا أخرى، و لكن دون أن يكون هذا التنازل يضر بقيمة الفكرة في حد ذاتها، و هنا لا بد من الحكمة من أجل تقديم المصالح العليا دون إفراط أو تفريط..
-    مهارات القيادة:
القيادة هي ملكة أساسية لإنجاح أي مشروع، فلا يوجد مشروع ناجح ما لم يكن له قيادة ناجحة، و ما المشاريع في النهاية إلا أفكار نحتاج إلى من يمتلك القدرة على التأثير في سلوك الآخرين و توجيه سلوكهم من أجل إنجاحها، و هذا هو الدور التي يلعبه القائد، و من الملاحظ أن أغلب الأفكار التي تم تنزيلها على أرض الواقع تكون مرتبطة بأشخاص و رموز كان لهم الفضل في هذا التأثير و التوجيه. لذلك فغياب الأشخاص القياديين قد يتسبب في ضياع و اندثار الأفكار الجيدة.
-    أدوات الإدارة:
الإدارة هي مجال الفعل و التفعيل و التطبيق و التنزيل الواقعي، و امتلاك أدواتها هو الذي يجعل الفكرة تنتقل من كونها مجرد حلم غير واضح المعالم في الذهن، إلى فكرة واضحة ناصعة، لها رؤيا و أهداف و مراحل و أبعاد إستراتيجية، إذ أن المهارات الإدارية هي التي تسهل عملية التنزيل الواقعي و تساعد على تصحيح الأخطاء و تداركها، و تجعل من تطبيق الفكرة يتسم بخطوات واضحة في مسار واضح يتبين لك منه قدر الإنجاز و مكامن الخلل، و شكل المسؤولية. إنه انتقال بالفكرة من عالم الهواية إلى عالم الاحتراف، و إنه سبيل لا مناص منه من أجل تنزيل محكم، متقن و فعّال. 
  •  معادلة تفعيل الأفكار:
تفعيل الأفكار = قدرة روحية + قدرة مهراتية
= (إيمان×حماس×همة) + (فهم×قيادة×إدارة)
و أخيرا، إن الأفكار الأصيلة الهادفة للإصلاح تحتاج إلى جهد كبير من أجل تفعيلها، ” فليست المشكلة أن نًعلم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية وتأثيرها الاجتماعي”  كما قال مالك بن نبي، بل و لقد أوضح أكثر مكمن داء “اللافعالية” إذ قال: “إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاما مجردا بل أكثر من ذلك فهو يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرا مؤثرا، ويقولون كلاما منطقيا من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط”.
ــــــــــــــــــــــــ
  1. تقديم كتاب طرق الارشاد في الفكر و الحياة لمحمد فتح الله كولن
  2. صيد الخاطر

السبت، 14 يوليو 2012

إنسان الحضارة.. من يكون؟



إنسان الحضارة، لستُ أقول عنه سوى أنه إنسان تجلت فيه مظاهر الإنسانية. إنه إنسان صاغ واقعه بشكل يتناسب وفطرته. ارتفع عن بهيمية الغرائز.استمع إلى صوت العقل الذي مُيّز به. فاشتعل بنفخة الروح التي تسري في أركانه. أعمل فكره ثم شغل جوارحه بشكل أدى إلى إنتاج الحضارة. فكان هو إنسان الحضارة..!
  • الصفة الأولى: مؤمن (حامل للعقيدة):
بغض النظر عن ماهية إيمانه، فما أقصده هو أنه يؤمن بدين ما، عقيدة، أو حتى فكرة فلسفية، المهم أن خاصية الإيمان هذه ترتقي به إلى عالم الروح وتضفي عليه نوعا من “الغائية” التي ترتفع به عن النتائج الدنيوية وتخلصه من سيطرة الغرائز وتربطه بعالم القيم والأخلاق ، فتحرك بداخله طاقة خفية تخرجه من عالم “التكديس”[i] كما يقول بن نبي، فيكون بذلك حامل “لفكرة دينية”، أو كما أسماها الدكتور جاسم سلطان في  قوانين النهضة بالفكرة المركزية[ii] التي تعتبر هي محور الحركة. وبما أن الفكرة الدينية أو المركزية هي المحرك نحو التغيير الحضاري، فمن البديهي أن يكون إنسان الحضارة – الذي يعتبر المغيِّر والفاعل حضاريا- يتصف بحمل هذه الفكرة في وجدانه، ويؤمن بها إيمانا يرتقي به إلى عالم الروح. ولقد ضرب مالك بن نبي مثلا في غاية الروعة في معرض حديثه عن أثر الفكرة الدينية في البناء الحضاري لم أجد أفضل منه لأمثل به، حيث قال: ” هذا القانون نفسه – ويقصد قانون الروح الذي طبعته الفكرة الدينية- هو الذي كان يحكم بلالاً حينما كان تحت سوط العذاب يرفع سبابته ولا يفتر عن تكرار “أحد..أحد..!” إذ من الواضح أن هذه القولة لا تمثل صيحة الغريزة، فصوت الغريزة قد صمت؛ ولكنه لا يمكن أن يكون ألغي بواسطة التعذيب، كما أنها لا تمثل صوت العقل أيضا فالألم لا يتعقل الأشياء. إنها صيحة الروح التي تحررت من إسار الغرائز بعدما تمت سيطرة العقيدة عليها نهائيا في ذاتية بلال بن رباح”[iii].
إن صفة الإيمان هي التي تؤدي إلى البناء الحضاري، كما أنها هي التي تحافظ عليه؛ إنها تشعل فتيل البناء أول مرة، وتحميه من تسلل الغلبة المادية عندما تزخر الحضارة بعالم الأشياء الذي نتج عن ذلك البناء، فتكون الغائية التي تصحب صفة الإيمان هي نظام المناعة الذي يدرأ عن الحضارة خطر الركون إلى عالم الأشياء الذي قد يقودها إلى الانحدار.
  • الصفة الثانية: مثقف (حامل لجذوره الثقافية):
ما أقصده بالمثقف هنا، ربما لا يكون نفس المعنى السائد والمتداول، أي ذلك الشخص واسع الإطلاع – وإن كان هذا مطلوبا وضروريا في إنسان الحضارة – ولكن ما أقصده هنا بالضبط، هو ذلك الإنسان المتجذر بثقافة حضارته، المرتبط بها، الحامل لها.. وإلا كيف ينتسب إليها؟! فمفهوم الحضارة يحتوي على شق مادي، وآخر معنوي هو ما نعبر عنه بالثقافة، ولهذا من الضروري أن لا يكون إنسان الحضارة مغتربا عن ثقافته طالما أنها تشكل جزءا من مضمون حضارته.
إن إنساننا اليوم أصبح مشوها ثقافيا، فاقدا للخصوصية المميزة له ولقد عبرتُ عنه ذات مرة فقلت واصفة إياه: “سرواله عصري، قميصه عصري، حذاؤه عصري ، تسريحة شعره عصرية، لا يختلف كثيرا عن البقية الآخرين ، اللذين جردتهم “العصرنة” من خصوصياتهم البشرية وجمعتهم تحت نمط هوليودي واحد موحد، لا تركتهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا، ولا علمتهم ذوقًا وأدبًا”.
هذا الإنسان الخالي من مظاهره الثقافية، المتجسِد بثقافة أخرى هيمنت عليه، والتي أشرت إليها بقولي “نمط هوليودي واحد موحد ” لا يمكن أن يكون إنسان حضارة طالما أنه يلهث خلف ثقافة غيره. وأود أن أوضح أن ما أقصده بالثقافة، ليس فقط المظهر- كما قد يهيأ للقارئ من تلك السطور التي أردت فقط أن أوصل من خلالها الصورة النمطية التي مسحت معالم الثقافة الذاتية-  ولكن الثقافة هي مجموع القيم المعرفية والسلوكية التي تنبثق من حضارة الإنسان وهويته، إنها الجذور التي لن ينمو غرسه إذا ما اقتلعها، فحتى ثماره إذا كبرت فستكون دون رائحة أو لون أو طعم!
  • الصفة الثالثة: مبدع (صاحب فكر مجدد):
إنسان الحضارة ليس بالإنسان النمطي، المقلد، التابع، الرتيب. إنسان الحضارة هو ذاك الذي ارتوت عروقه بدماء التجديد والابتكار والإبداع حين تسامى بروحه فتسامت معه ممكناته وانطلق فكره ليتحف ويجدد، إنه إنسان لا يخضع عقله للأفكار القديمة دون نقد أو تمحيص، إنه إنسان لا يكتفي بما وجد عليه آباءه الأولون بل إنه دائم الإعمال لعقله، مجدد في فكره وفعله.. هذا الإبداع الذي يتصف به إنسان الحضارة يكون نتيجة التهيئة المناخية له، وإننا لنجد في الحضارة الإسلامية أروع النماذج الإبداعية من عقول فذة جددت الفكر وأبدعت فيه، مثل: “الغزالي وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسيبويه، والكندي، والفارابي، وابن رشد، وغيرهم ممن اختلفت أوطانعم وتباينت جذورهم  وقدمت من خلالهم الحضارة الإسلامية إلى الإنسانية أروع نتاج الفكر الإنساني.
و كيف لا نجد مثل هذه النماذج وغيرها في حضارة يقول مؤسسها-صلوات ربي عليه- في الحديث المتفق عليه، “إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر”! فكان فتح باب الاجتهاد من أهم المبادئ التي فتحت باب إعمال العقل، أزالت هاجس الخوف من الخطأ، فأطلقت مكامن الإبداع في الحضارة الإسلامية.
  • الصفة الرابعة: ذوّاق (حامل للجمال):
الذوق الجمالي هو توأم الإبداع، وهما رفيقان في كيان إنسان الحضارة. ولقد تنبه مالك بن نبي للدور الحضاري الذي تلعبه النزعة الجمالية في كيان إنسان الحضارة حيث قال: “لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل أو بالأفكار الكبيرة، فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالا أقبح، والمجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة، لابد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره وأعماله ومساعيه”. ولهذا لا يمكن لإنسان الحضارة إلا أن يكون ذوّاقا تطبع في خياله صور الجمال قبل أن يطبع حضارته بها، كما أن صور الجمال في حضارته تطبع خياله ليزيد الجمال جمالا فيرتقي بذائقته وبالتالي بحضارته، إنها علاقة مركبة وضرورية  تلك التي توجد بين الجمال وإنسان الحضارة، ولذلك لابد له من أن يكون ” ذوّاقـا”!
نجد في الحضارة الإسلامية أمثلة الجمال لا تعد ولا تحصى، وهي لم تكن تقف عند زخارف المآذن والصوامع والقباب والقناطر، بل يظهر الحس الجمالي حتى في الابتكارات الميكانيكية وغيرها حيث لم تخلُ من اللمسات الجمالية التي طبعت إنسان الحضارة الإسلامية..
فإذا كان إنسان الحضارة عموما لا يعدو عن كونه مفكرا أو عالما أو فنانا.. فإنه لن يستغني عن الجمال كي يطبع به فكره أو علمه أو فنه، وكلما ارتقت ذائقته..ارتقى معها إنتاجه الحضاري!
  • الصفة الخامسة: فعّال (صاحب منطق عملي إنتاجي):
الفعّالية هي صفة لصيقة بالبناء الحضاري، ولا يمكن لإنسان الحضارة إلا أن يتصف بها. فهي التي تترجم الفكر الحضاري إلى واقع حضاري، وبدونها لا يمكن الحديث عن حضارة. وكما يصف ابن نبي الفعالية فإنها ” نتاج حالة خاصة من التوتر، توتر في الضمير، أي توتر أخلاقي واقتصادي وعلمي ونفسي… وهو حالة نفسية اجتماعية دلّ التاريخ على أنها تنشأ في ظروف معينة، تكون فيها المبررات التي تكوِّن الدوافع الإنسانية التي تدفع النشاط إلى أعلى قمته”[iv].
فهذا التوتر الذي تطبعه الفكرة في النفس فيخرجها من الفتور هو الذي جعل عمار بن ياسر في التجربة الإسلامية مثلا ينقل حجرين بدل الحجر الواحد أثناء بناء المسجد النبوي، وهو الذي جعل “استاخانوف” في التجربة الماركسية ينتج عشرة أطنان من الفحم بدل الخمسة التي ينتجها زملاؤه ، وهو الذي جعل ألمانيا تنهض من العدم بعد الحرب العالمية الثانية [v].
و لعلي أكون قد وفقت في اختيار صفات إنسان الحضارة بشكل يتناسب وطبيعة الإنسان وطبيعة الحضارة المركبتين، بحث لم أغفل النسق الشمولي الذي يتمتع به إنسان الحضارة.
ألخص هذه الصفات إذا في خطاطة أقرب للوضوح في التصور الذهني:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
[i]  مفهوم التكديس يطلقه بن نبي على عناصر الحضارة؛ الإنسان، التراب والوقت، عندما لا يتم استغلالها من أجل البناء الحضاري.
[ii]  انظر قوانين النهضة، القواعد الإستراتيجية في الصراع والتدافع الحضاري|الدكتور جاسم سلطان. الصفحة رقم 13.
[iii]  أنظر “شروط النهضة” لمالك بن نبي، الصفحة رقم 75| الطبعة الثانية.
[iv]  نقلا عن عمر عبيد حسنة، من بحثه “الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري*أنموذج مالك بن نبي”.
[v]  هذه الأمثلة نقلتها من نفس البحث آنف الذكر بتصرف.

الرابط :http://feker.net/ar/2012/06/25/11508/

الجمعة، 18 مايو 2012

بيجوفيتش..ينتصر للإنسان !






لأنه هو القائل: “لو لم يكن الليل لكنا بقينا عاجزين عن رؤية السماء ذات النجوم، وهكذا يجردنا الضوء بعض الرؤية في حين أن العتمة والظلام يساعداننا على أن نرى شيئا”.. كان لابد للعتمة الشيوعية شديدة الظلمة أن تكون سببا في بزوغ نجمه.. وسطوع نوره المتلألئ, الذي أضاء العالم بقطبيه الغربي والشرقي، في ثنائية عجيبة  تشبه فلسفته التي يُعرِّف من خلالها الإسلام ويُدهِش بها الأفهام!
علي عزت بيجوفيتش، ثمانية وسبعين عاماً أُسدِل ستارها في 19 أكتوبر 2003، تبدو سنوات زهيدة جدا بالمقارنة مع عظيم إنجازات شخص جمع بين الجهاد والسياسة، والفكر والإبداع والفلسفة!
إنه رئيس البوسنة والهرسك، الذي ينتمي إلى أسرة بوسنية عريقة، وهب حياته لمعاناة شعبه وللتصدي للظلم الذي يحيق به، حمل مشروعه الإصلاحي، ودوّن فكره وفلسفته بين نضال وسجن. هو ذاك الرجل المسلم الذي ترعرع في كنف العالم الغربي، فجمع بين الإسلام الصحيح والتمكن العميق من فلسفة الغرب وثقافته، فكان أن أتحفنا في باكورة أعماله “الإسلام بين الشرق والغرب” بفلسفة جديدة هزت الأوساط المثقفة بجميع توجهاتها..
بين المادة والروح .. ثنائية بيجوفيتش!
يضع بيجوفيتش ثلاث رؤى يعتقد أنه لا يمكن تفسير العالم على نحو آخر غيرها؛ الرؤية المادية، الرؤية الروحية، والرؤية الإسلامية.
ثم يقوم من خلال أسلوب فلسفي عميق بإظهار عجز الفلسفة المادية عن تفسير مكنون إنسانية الإنسان، وعدم قدرتها على احتواء العديد من الظواهر كالفن والأخلاق.
في المقابل يبين أن الرؤية الدينية المستغرقة في الجانب الروحي ليست كافية للاستجابة لواقعية الحياة الإنسانية ولا يمكن اعتمادها كبديل للطرح المادي، كما أن الطرح المادي لن يكون بديلا للطرح الديني. وهنا يقدم الحل المتمثل في الإسلام بصفته وحدة ثنائية القطب، تمزج بين المادة والروح دون صراع أو تنافر.
ولقد تجسدت قوة طرح بيجوفيتش في اعتماده على الآراء الفلسفية الغربية التي يبدو بوضوح تمكنه الشديد منها، حيث استطاع أن يدحض الرؤى الغربية للعالم من خلال أفكارها وثقافتها، واستطاع أن يهدم البنية المادية بذكاء شديد من خلال كشف قصورها وعدم مقدرتها عن استيعاب مفهوم الإنسانية، فكان الإنسان “الطبيعي” في مقابل الإنسان “الإنسان”, هو الوتر الرئيس الذي عزف عليه علي عزت عزفا مستغرقاُ في الجمال..
كشف لنا عن شخصية عميقة الفكر مشبعة بالإيمان محيطة بالإيديولجيات والأفكار إحاطة تمكنه من أن يستقوي عليها ويضعها في ميزان النقد بأسلوب واثق أكيد، ومنطق متألق فريد!
إنه علي عزت بيجوفيتش، الذي دافع عن إنسانية الإنسان بفكره وفلسفته، ثم دافع عن  إنسانية الإنسان بنضاله وجهاده، فكان بحق: الفيلسوف المجاهد!

الأحد، 15 أبريل 2012

"""

http://www.aljazeeratalk.net/node/9115


نَدى الفِكْر .. قَطراتُ السّدِّ المَنِيع
بين البناء و التجميع: المسيري أنموذجاً
بقلم/ سهام أمسغرو







في كل مرة تَتَجمّع فيها حبيبات الندى لتشكل تلك القطرة المتدلية من أهداب الزهر لدرجة تغريك معها بأن تمد يدك كي تلقّــفَها.. فيتشَرّبُها جلدك لتبُـثّ فيه بِضعًا من حياة،  فاعْلَم أنهّا بَنَتْ في روحك حسّا خفيا لا يكاد يرى له أثرا ! فآه لو أنك عرّضت لها وعاءً أسفل منها فيمتلئ قِطْرًا ندِيّا على مهلٍ يسقي الروح بأتمّها، فيكتمل بناء الحِس، و يستحيل بضع الحياة حياةً كاملة !
 وكذلك هي خيالات الأفكار.. إذا ما تجمعت لتنشئ فكرة –كبيرة كانت أم صغيرة- فإنها تلقي بلبنةٍ في بنائك الفكري، لبنة قد تـبْـنِي رُفقة لبناتٍ أخرى سورًا مائلا ،أو سقفا أعوجا، أو بيتا هشا، إذا لم تهيئ لها الإطار الهندسي الملائم لتشييد بناء صلب متين يستثمر كل طوبة في موقعها الصحيح. إنه الوعاء في حال قطرات الندى، الذي جعل من جَمعِ الحُبيبات جمعًا للقطرات.. بل، وكذلك مياه الأمطار، قد تتجمع في حفرة و قد تتجمع في نَهَر، وقد تتجمع وسط الزرع فتهلكه بدل أن تحييه !  وما جعلت السدود إلا بمثابة الوعاء أو البناء الذي يحفظها ويجعلها قابلة للنفع و الاستغلال.
 ومن هنا، كان ضروريا للإنسان أن يشيد سدا منيعا يجمع شتات فكره المتهاطل، جمعًا يجعله منتفِعًا ونافِعًا بخلاصاته الفكرية، تراكماته المعرفية، و ليس مجرد جمعٍ لا يُعْلِي سقفا و لا يُنبت زرعا..
و يا لعظمة ذلك الإنسان، الذي يشيد فكره من شتات القراءات و التجارب و المعارف، تشييد من حوَّط السد أولاً،  وأنشأ القنوات التي تجعل من فكره صيبا نافعا يسقي الحرث والنسل،  مُتحليا بعبق قطرات الندى، صابرا على بُطئِ وُرُودها مُتأنّيـَا.. فيؤتي أكله كلّ حين ! 
 

ولذلك، تكون عملية التجميع مفيدة إذا ما قرنت بعملية البناء، فالتجميع لا يغني أبدا عن إيجاد الوعاء الذي يصب فيه تلك المعارف المجمّعة، بل أكثر من ذلك، فهو يختارها بعناية قبل تجميعها، فهذا الوعاء يشكل الإطار المنهجي التي ينقح و يفرز و يُوجّه و يسدد و يقارب. إنه  يرصّ اللبنات رصا متناسقا ينتج عنه فكر  واضح. فكر من شأنه أن يُخرج لنا من عالم الأفكار إلى عالم الواقع نتائج ملموسة من إبداع عَمَلي يحقق تغييرا واقعياً . فبناء الحياة ما هو في الحقيقة إلا بناء للفكر ، وإنه لمن المؤسف حقا أن يضيع الإنسان جهده في تجميع للأفكار والمعارف بشكل عشوائي لا يفضي الى بناء فكري حقيقي يقود إلى بناء للحياة..!


بين البناء و التجميع: المسيري أنموذجاً


 ولقد تحدث د.عبد الوهاب المسيري عن ثلاث ذئاب هاجمته في حياته الفكرية قبل أن يُسيْطر عليها[i]، من بينها الذئب الهيجيلي المعلوماتي الذي يجعل الإنسان يستغرق في البحث عن المعلومات بشكل تفصيلي إلى أن ينهش هذا الذئب صاحبه دون الوصول إلى ما لانهاية، و لقد لخص إشكالية التجميع الغير ممنهج عندما تحدث عن بعض ضحاياها قائلا:
"فبعضهم يحشد التعميمات التي لا يربطها رابط (أسميها "أفكاراً" في مقابل فكر) ،والبعض الآخر يحشد المعلومات التي لا يربطها رابط أيضا.." [ii]
كما أن في اعتماده على الباحثين من أجل عملية تجميع المعلومات، ليتمكن هو من الانتاج الفكري خصوصا في انجازه للموسوعة، نموذج رائع للبناء الفكري الذكي الذي يخلف أثرا واضحا .. ولذلك كان يدعو النقاد دائما –كما يقول- إلى "رؤية ما يكتب في إطار معرفي تحليلي يتجاوز الإطار المعلوماتي التراكمي"[iii].

ولهذا، فما الفكر إلا ندى لن تزهوَ الحياة بعبقه إلا بتجميع  قطراته في سد منيع !





[i] الذئب الأول و الثاني هما:الثروة والشهرة
[ii] أنظر "رحلتي الفكرية، في البذور والجذور والثمر" ص: 171
[iii] أنظرنفس المرجع السابق:، ص: 573

السبت، 7 أبريل 2012

عَلى حافّة الموضوعية.. هاوِية الهَوى !




إنّ التفكير الموضوعي هو إعمالٌ للعقل بطريقة ينتج عنها فكر متوازن عميق لا يخضع لمؤثرات غير المنطق السليم و الحجة الدامغة و الرغبة الصادقة في طلب الحق. و من هنا كان ضروريا أن يُشكل التجرد من الهوى – بصفته واحدا من أهم هذه المؤثرات - عنصرا أساسيا في بناء الموضوعية الفكرية. إنه تخليص للإدراك العقلي من شوائبٍ قد تحول دون  إقرار الإنسان بالفكرة السليمة ليس لشيء سوى لأنها لا تتماشى مع مزاجه أو شهوته أو هوى نفسه، وكما قال مصطفى السباعي: أكثر ضلال الناس من أهوائهم لا من عقولهم !

فعندما يقول رب العزة في كتابه الحكيم: {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم} فهو يكشف حقيقة قرار المشركين عندما اختاروا الإعراض عن طريق الإيمان. إنهم لم يرفضوه نتيجة اقتناع  بـ" علم"، وإنما كان رفضهم  نتيجة اتباع لأهوائهم الشخصية.. و لذلك فإن المشركين عندما كانوا يغلقون آذانهم كي لا يستمعوا إلى كلام الله المرتل بصوت نبيه الكريم فإنهم لم يعرضوا لأن فحوى الدعوة المحمدية لم يرقَ إلى قناعاتهم العقلية، فهم لم  يطلعوا عليه أساسا، ولكنهم رفضوه لأنهم لم يتجردوا من أهوائهم التي لا تقبل التغيير و تفضل المكوث في العقلية التي كان عليها آباؤهم.

 و إذا نظرنا إلى فرعون، أولم يكن يصِرُّ على لعب دور الإله حتى آخر لحظة تبين له فيها زيف عرشه الذي اصطنعه هواه؟ ،بل أوليس الحاكم العربي اليوم يعيش في عزلة فكرية نسجت شباكها شهوة السلطة فتعارضت مع كل المعطيات الواقعية الموضوعية  فأودت به إلى ما نراه اليوم !؟
أوليس الرأي الدولي الذي يتفرج على المجازر السورية محكوما بهوى المصالح التي  تجعل من الدماء المسفوكة رخيصة إلى هذا الحد؟ أوليست القضية الفلسطينية خاضعة لنفس المعايير من قبل؟ ! 

إن خطورة عدم التجرد من الهوى تكمن في لحظة الحسم بين أفكارٍ تحتاج إلى إعمال العقل المبني على الاستدلال و الحجة و البرهان، فيأتي الهوى بحُجبِه ليصرف الفكر عن كل ذاك ليتربع هو على عرش القرار، فيهلك صاحبه بِردِّه عن الحق و طرحه في براثين الضلال،  وكما قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: "و صاحب الهوى يعميه الهوى و يصمه"

و الحقيقة أن كل فكرة تُطرح في ميزان الموضوعية فهي تحتاج لتجرد من الهوى، و هذا أمر عسير إلا على من صدق في طلب الحق، و أخلص في تمحيص الرؤية ! لأن الشهوة قد تتلبس أحيانا بلباس العقل بحيث تقدم مبررات تحت مسمى المنطق، و لكن لا يخضع لتأثيرها من قدّم الحق على ما سواه و رغب في الوصول إليه متجردا له، فالصدق و التحري في خبايا النفس و اتهامها إلى حين ثبوت براءتها من مراوغاتها المشبوهة التي تبغي بها التحايل على العقل هو السبيل للنجاة من هاوية الهوى.. 
ومن النماذج المبهرة لهذا التمحيص من أجل التجرد من الهوى قصة سيدنا علي في إحدى المعارك، عندما همّ بقتل أحد المشركين، فبصق فيوجهه، فتركه، فسأله: "لما لم تقتلني؟" فأجابه: " كنت سأقتلك لله، أما و قد بصقت عليك كنت سأقتلك لنفسي، فعفوت "فهل لنا بيقظة تلتقط الهوى كتلك !





السبت، 12 نوفمبر 2011

الاستلهام الحضاري استلهام للهوية!





هناك من لا ينطق بالحديث عن الحضارة إلا وتجده متحدثًا عن النموذج الغربي بصيغة توحي بحتمية استلهامه في أي بناء حضاري، و في الحقيقة أجد منطق هؤلاء يشبه منطق فتاة تعاني من البدانة منبهرة برشاقة صديقتها، اختارت كحل لبدانتها أن تخيط ثوبا بمقاسات صديقتها الرشيقة وليس بمقاساتها هي، بدل أن تفكر في كيفية إيجاد حل لإنقاص وزنها، فلا هي بذلك حاكت ثوبا يناسبها، ولا عالجت مشكل البدانة عندها!
لقد أحسن مالك بن نبي عندما صنف الأفكار التي يستعيرها الإنسان من ثقافة أخرى و يتبناها و يقلدها ضمن “الأفكار القاتلة” و كما قال: “لا يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشيّد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج”. إن هذه الفكرة في حد ذاتها عقبة في طريق أي بناء حضاري، فهي تجمع بين الانبهار بالآخر و الضعف في تقييم الذات و الخلل في فهم مقومات الحضارة.
لا شك أن الحضارة الأوروبية حققت الكثير من التقدم العلمي و التكنولوجي و الصناعي، و لا شك أنها تعيش حالة من التمدن الذي يكفل للمواطن الراحة و الرفاهية الكافية من أجل عيش كريم، لكنه ليس بالخفي أن هذه الحضارة فارغة تماما من أي قيم أخلاقية معنوية، و بقدر ما تتقدم في عالم المادة فهي تنحدر في عالم الروح، و بقدر ما تنشأ المصانع و المعامل فإنها تنشأ دور المسنين و مراكز علاج الإدمان.. فهي تبني المدينة و تهدم المجتمع، تشيد الاسمنت و تهدم الإنسان.
في المقابل، نجد أنه في عالمنا العربي والإسلامي، يفصلنا عن الحضارة الأوروبية أشواط كبيرة في مجال البناء المادي، في ذات الوقت الذي نفتقد فيه انتمائنا لذواتنا و هوياتنا و لقيمنا الدينية الأخلاقية، و هذا الوضع هو الذي جعل الكثيرين يخضعون لهذه الحالة من التأثر و الانبهار بالحضارة الغربية و ينادون بتبني خطواتها من أجل السير في طريق التحضر كأنه لا يوجد طريق سواه. إنه الخواء ما يجعل الانبهار بالزخرف ممكنا !
فعندما نجد مثل هذا الانبهار الجارف الذي لا يُلتفَت فيه إلى النفس بقدر ما ُيلتفت فيه إلى الآخر، فإننا نعاني من ضعف في تقييم الذات، إننا لا نفقه أننا نحمل جذور حضارة بداخلنا تفوقت بكثير على هذه الحضارة العرجاء التي تغري أنفسنا بالانجراف نحوها، إننا نطمس كل القدرات المتوفرة لدينا و التي تميزنا و نريد أن نستورد أخرى ليست على مقاسنا، إننا بذلك نحتقر أنفسنا و نحكم على أنفسنا بمنزلة التبّع و نحرمها من مراكز القيادة..عندما نفكر في استلهام النموذج الغربي كطريق حتمي للبناء الحضاري، فإننا ننكر ذواتنا، و لا نحسن الاستماع إلى أصواتنا الداخلية التي تصرخ قائلة، إن الحضارة هنا .. فقط نقب عنها و ضع لنفسك من خلال نفسك خطة و طريقا.. !
يقول مالك بن نبي: “مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته. ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها” ولذلك فالحضارة هي حالة من الارتقاء في سلم التاريخ الإنساني تحدث في مجتمع ما، من خلال مجموع النظم المادية و القيم المعنوية التي يسير وفقها و التي يتميز بها عن غيره من المجتمعات. فهي ليست شيئا مستوردا، و لكنها رقي ينطلق من مقومات المجتمع و خصوصياته الذاتية. و بالتالي فإن محاولة الاستلهام الحضاري هي فكرة خارج سياق مفهوم البناء الحضاري طالما أنه دخل دائرة التقليد و فقد الخصوصية الذاتية. و لهذا أعتقد أن من يتحدث عن هذا الاستلهام يعاني من خلل في فهم الحضارة من أساسه، و يحصرها في مفهوم ضيق ساذج ينم عن انبهار بالبناء المادي السطحي دونما إدراك لماهية الحضارة و عمقها الحقيقي.. إن الحضارة قبل كل شيء “هوية”، فهل يمكن استلهام الهوية؟