عندما تسقط فتجزم ألاّ نهوض، وتنزل لدرجة يصعب معها الصعود، فلا تجد لنفسك عزما، و لا قوة و لا فهما،، هنا.. تقرر ألاّ تعود، و توقن بانتهاكك للعهود، فتولي الأدبار تاركا، النور إذ أصبح خافتا، فتدفن قلبك الذي مات، و تشتغل أنت بالتفاهات، و لكن القلب المدفون تحرك، فنفض عنه التراب و استدرك، فبرز سر واحد جبار، ينقذ القلوب قبل أن تنهار ..انه الإصرار. إصرار رغم الخطأ و الزلة، إصرار رغم الهوان و الذلة! إصرار حتى الوصول، إصرار حتى القبول..

الأربعاء، 18 يوليو 2012

تَفعيل الأفكار واقِعيًّا




سأضرب مثالا قد يبدو للوهلة الأولى بعيدا تماما عن السياق، لكنه يوضح الرؤية التي أود الانطلاق منها؛ عندما نحتار بين فكرتين و لا ندري أيهما الأصلح لنطبقه في واقعنا، نلجأ إلى الله في الاستخارة فنقول: “اللهم إنا نستخيرك بعلمك و نستقدرك بقدرتك” و هنا يتبين لنا الشقين الأساسيين في هذا الدعاء النبوي المعجز.
الشق الأول، نستخيرك بعلمك ؛ هنا لجوء إلى علم الله من أجل اختيار “الفكرة الصالحة”، و لكن لماذا لم ينتهي الدعاء إلى هنا و تمت إضافة الشق الثاني، “نستقدرك بقدرتك” ؟ أليس اللجوء إلى علم الله من أجل “امتلاك” الفكرة الصالحة كافيا؟ ما فائدة امتلاك الفكرة الصالحة إذا لم تتحول إلى واقع معاش إذن؟
إنها القدرة.. القدرة هي التي تجعل من هذه الفكرة واقعا مُفَعّلا ملموسا !
و بعيدا عن القدرة الإلهية المطلقة، و التي لا يُعجزها شيء في الأرض و لا في السماء، نتطرق إلى قدرة الإنسان النسبية و التي من خلالها يستطيع تفعيل أفكاره واقعيا، هذه القدرة التي تتميز بخصائص كثيرة متشابكة فيما بينها أحاول توضيحها حسب ما توصل إليه تأملي، و أقسمها بذلك إلى صنفين:
  • قدرة الإنسان الروحية: و هي مرتبطة بكيان الإنسان الداخلي و بتفاعله الروحي مع الفكرة محل التفعيل.
  • قدرة الإنسان المهراتية: مرتبطة بملكات و مهارات الإنسان وبتفاعله مع الواقع الذي هو مجال التفعيل.
وانطلاقا من هذه الخطاطة التي حاولت من خلالها تلخيص الكيفية التي يتم بها تفعيل الأفكار و العوامل المساعدة على ذلك، يظهر بوضوح أن بعض العوامل مرتبطة بتفاعل الإنسان مع الفكرة و البعض الآخر مرتبط بتفاعله مع الواقع. إذ لا يمكن تفعيل فكرة في واقع ما دون مراعاته و دراسة حيثياته و امتلاك أدواته، كما أن مراعاة الواقع و التمكن منه لا تغني عن ضرورة  تشرب الفكرة و التفاعل معها روحيا.
أسرد العوامل إذن، كما وضحتها في الرسم مع شيء من التفصيل:
  • العوامل المتعلقة بالتفاعل مع الفكرة محل التفعيل:
-    الإيمان بالفكرة:
امتلاك الفكرة، بمعنى العلم بها، معرفتها و الوعي بها ليس كافيا، إنما تحتاج الأفكار إلى إيمان ! ذلك الإيمان الذي يجعل من الأفكار جزء لا يتجزأ من كيان الإنسان، ذلك الإيمان الذي يشكل منها قناعة لا تتزعزع و جوهرا لا يتلاشى و لا يغير الوجهة إذا ما غيرتها رياح الواقع، فهي تظل ثابتة صلبة في مكانها، عميقة بما يكفي كي تتمثل واقعا في جوارح الإنسان الذي لن يكون أمامه سوى الاستجابة لروحه..
ولقد عبر عن ذلك الدكتور أديب الدباغ بشكل ممتاز عندما قال: “عندما لا يملأك الشعور بأن دعوتك هي قلب الكون، و روح الوجود، و أنها صمام أمن و أمان له، فكيف تواتيك الشجاعة لمواجهة العالم كله؟ !”[i]
-    الحماس لها:
الحماس هو وليد الإيمان و الاعتقاد الشديد بالفكرة ، و لا يمكن التعويل على تفعيل فكرة ما إذا لم يتوفر الحماس لها، فهو كالوقود الذي يحرك عجلة العمل، و يبث روح الإقناع ، ولهيب كلمات إنسان متحمس هو الذي قد يغرس إيمانا بالفكرة في قلوب أخرى غير قلبه، و حماسه هو الذي ينشط جوارحه كي تكدح و تعمل في سبيل تفعيلها.
-    علو الهمة و قوة العزيمة:
قد يؤدي الحماس إلى رفع الهمة، و لكن الهمة العالية وحدها من يجعل من الحماس مستمرا و ليس مرحليا آنيا فقط. الهمة العالية هي جوهر الفعل الإنساني، هي الرصيد الذي يضمن الأمد الطويل للفكرة، وكما قال ابن الجوزي فإن  الهمة خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل[ii].  أما قوة العزيمة فهي التي تولد الإصرار و تساعد على تخطي العقبات.
  • العوامل المتعلقة بالتفاعل مع الواقع مجال التفعيل:
-    فهم الواقع و التأقلم معه:
في الخطاطة أعلاه، بينت أن الواقع يتكون من ثلاث أسس؛ المكان/الزمان/الإنسان، و هي كلها أمور متغيرة لا يمكن أن تخضع للتعميم، و لذلك فهي تحتاج إلى فهم، ثم إلى تأقلم.
إذ لا يمكن أن نشرع في تفعيل فكرة ما في بيئة ما، دون مراعاة العوامل المكانية و الزمنية و الإنسانية، فهناك أفكار تكون صالحة لمكان ما، و غير صالحة في غيره، و هناك منها ما كان مناسبا لعصر من العصور، و لم يعد كذلك، و هناك من الأفكار ما يمكن تطبيقه على شريحة إنسانية ذات فكر وثقافة محددين، في حين أن تطبيقها على أناس آخرين قد لا يكون مناسبا.
و لذلك فإن فهم الواقع بأبعاده الزمنية والمكانية و الإنسانية فهما عميقا عبر دراسته دراسة متأنية و ممحصة، يبدو في غاية الأهمية قبل الشروع في عملية التفعيل للأفكار فيه.
وبعد الفهم و الاستيعاب الجيدين للواقع سيكون لابد من التأقلم، ومن المؤكد أن ما أقصده بالتأقلم ليس هو تصغير حجم الفكرة لتحاكي الواقع، أو تشويها كي تتناسب معه.. ما أقصده بالتأقلم هو المرونة في الطرح .فأي فكرة في تصورها النظري لن يتم تنزيلها واقعيا إذا ما سلكت طريق الجمود، فالواقع يتطلب نوعا من المرونة و القابلية للتغيير أحيانا، و للتنازل أحيانا أخرى، و لكن دون أن يكون هذا التنازل يضر بقيمة الفكرة في حد ذاتها، و هنا لا بد من الحكمة من أجل تقديم المصالح العليا دون إفراط أو تفريط..
-    مهارات القيادة:
القيادة هي ملكة أساسية لإنجاح أي مشروع، فلا يوجد مشروع ناجح ما لم يكن له قيادة ناجحة، و ما المشاريع في النهاية إلا أفكار نحتاج إلى من يمتلك القدرة على التأثير في سلوك الآخرين و توجيه سلوكهم من أجل إنجاحها، و هذا هو الدور التي يلعبه القائد، و من الملاحظ أن أغلب الأفكار التي تم تنزيلها على أرض الواقع تكون مرتبطة بأشخاص و رموز كان لهم الفضل في هذا التأثير و التوجيه. لذلك فغياب الأشخاص القياديين قد يتسبب في ضياع و اندثار الأفكار الجيدة.
-    أدوات الإدارة:
الإدارة هي مجال الفعل و التفعيل و التطبيق و التنزيل الواقعي، و امتلاك أدواتها هو الذي يجعل الفكرة تنتقل من كونها مجرد حلم غير واضح المعالم في الذهن، إلى فكرة واضحة ناصعة، لها رؤيا و أهداف و مراحل و أبعاد إستراتيجية، إذ أن المهارات الإدارية هي التي تسهل عملية التنزيل الواقعي و تساعد على تصحيح الأخطاء و تداركها، و تجعل من تطبيق الفكرة يتسم بخطوات واضحة في مسار واضح يتبين لك منه قدر الإنجاز و مكامن الخلل، و شكل المسؤولية. إنه انتقال بالفكرة من عالم الهواية إلى عالم الاحتراف، و إنه سبيل لا مناص منه من أجل تنزيل محكم، متقن و فعّال. 
  •  معادلة تفعيل الأفكار:
تفعيل الأفكار = قدرة روحية + قدرة مهراتية
= (إيمان×حماس×همة) + (فهم×قيادة×إدارة)
و أخيرا، إن الأفكار الأصيلة الهادفة للإصلاح تحتاج إلى جهد كبير من أجل تفعيلها، ” فليست المشكلة أن نًعلم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية وتأثيرها الاجتماعي”  كما قال مالك بن نبي، بل و لقد أوضح أكثر مكمن داء “اللافعالية” إذ قال: “إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاما مجردا بل أكثر من ذلك فهو يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرا مؤثرا، ويقولون كلاما منطقيا من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط”.
ــــــــــــــــــــــــ
  1. تقديم كتاب طرق الارشاد في الفكر و الحياة لمحمد فتح الله كولن
  2. صيد الخاطر

السبت، 14 يوليو 2012

إنسان الحضارة.. من يكون؟



إنسان الحضارة، لستُ أقول عنه سوى أنه إنسان تجلت فيه مظاهر الإنسانية. إنه إنسان صاغ واقعه بشكل يتناسب وفطرته. ارتفع عن بهيمية الغرائز.استمع إلى صوت العقل الذي مُيّز به. فاشتعل بنفخة الروح التي تسري في أركانه. أعمل فكره ثم شغل جوارحه بشكل أدى إلى إنتاج الحضارة. فكان هو إنسان الحضارة..!
  • الصفة الأولى: مؤمن (حامل للعقيدة):
بغض النظر عن ماهية إيمانه، فما أقصده هو أنه يؤمن بدين ما، عقيدة، أو حتى فكرة فلسفية، المهم أن خاصية الإيمان هذه ترتقي به إلى عالم الروح وتضفي عليه نوعا من “الغائية” التي ترتفع به عن النتائج الدنيوية وتخلصه من سيطرة الغرائز وتربطه بعالم القيم والأخلاق ، فتحرك بداخله طاقة خفية تخرجه من عالم “التكديس”[i] كما يقول بن نبي، فيكون بذلك حامل “لفكرة دينية”، أو كما أسماها الدكتور جاسم سلطان في  قوانين النهضة بالفكرة المركزية[ii] التي تعتبر هي محور الحركة. وبما أن الفكرة الدينية أو المركزية هي المحرك نحو التغيير الحضاري، فمن البديهي أن يكون إنسان الحضارة – الذي يعتبر المغيِّر والفاعل حضاريا- يتصف بحمل هذه الفكرة في وجدانه، ويؤمن بها إيمانا يرتقي به إلى عالم الروح. ولقد ضرب مالك بن نبي مثلا في غاية الروعة في معرض حديثه عن أثر الفكرة الدينية في البناء الحضاري لم أجد أفضل منه لأمثل به، حيث قال: ” هذا القانون نفسه – ويقصد قانون الروح الذي طبعته الفكرة الدينية- هو الذي كان يحكم بلالاً حينما كان تحت سوط العذاب يرفع سبابته ولا يفتر عن تكرار “أحد..أحد..!” إذ من الواضح أن هذه القولة لا تمثل صيحة الغريزة، فصوت الغريزة قد صمت؛ ولكنه لا يمكن أن يكون ألغي بواسطة التعذيب، كما أنها لا تمثل صوت العقل أيضا فالألم لا يتعقل الأشياء. إنها صيحة الروح التي تحررت من إسار الغرائز بعدما تمت سيطرة العقيدة عليها نهائيا في ذاتية بلال بن رباح”[iii].
إن صفة الإيمان هي التي تؤدي إلى البناء الحضاري، كما أنها هي التي تحافظ عليه؛ إنها تشعل فتيل البناء أول مرة، وتحميه من تسلل الغلبة المادية عندما تزخر الحضارة بعالم الأشياء الذي نتج عن ذلك البناء، فتكون الغائية التي تصحب صفة الإيمان هي نظام المناعة الذي يدرأ عن الحضارة خطر الركون إلى عالم الأشياء الذي قد يقودها إلى الانحدار.
  • الصفة الثانية: مثقف (حامل لجذوره الثقافية):
ما أقصده بالمثقف هنا، ربما لا يكون نفس المعنى السائد والمتداول، أي ذلك الشخص واسع الإطلاع – وإن كان هذا مطلوبا وضروريا في إنسان الحضارة – ولكن ما أقصده هنا بالضبط، هو ذلك الإنسان المتجذر بثقافة حضارته، المرتبط بها، الحامل لها.. وإلا كيف ينتسب إليها؟! فمفهوم الحضارة يحتوي على شق مادي، وآخر معنوي هو ما نعبر عنه بالثقافة، ولهذا من الضروري أن لا يكون إنسان الحضارة مغتربا عن ثقافته طالما أنها تشكل جزءا من مضمون حضارته.
إن إنساننا اليوم أصبح مشوها ثقافيا، فاقدا للخصوصية المميزة له ولقد عبرتُ عنه ذات مرة فقلت واصفة إياه: “سرواله عصري، قميصه عصري، حذاؤه عصري ، تسريحة شعره عصرية، لا يختلف كثيرا عن البقية الآخرين ، اللذين جردتهم “العصرنة” من خصوصياتهم البشرية وجمعتهم تحت نمط هوليودي واحد موحد، لا تركتهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا، ولا علمتهم ذوقًا وأدبًا”.
هذا الإنسان الخالي من مظاهره الثقافية، المتجسِد بثقافة أخرى هيمنت عليه، والتي أشرت إليها بقولي “نمط هوليودي واحد موحد ” لا يمكن أن يكون إنسان حضارة طالما أنه يلهث خلف ثقافة غيره. وأود أن أوضح أن ما أقصده بالثقافة، ليس فقط المظهر- كما قد يهيأ للقارئ من تلك السطور التي أردت فقط أن أوصل من خلالها الصورة النمطية التي مسحت معالم الثقافة الذاتية-  ولكن الثقافة هي مجموع القيم المعرفية والسلوكية التي تنبثق من حضارة الإنسان وهويته، إنها الجذور التي لن ينمو غرسه إذا ما اقتلعها، فحتى ثماره إذا كبرت فستكون دون رائحة أو لون أو طعم!
  • الصفة الثالثة: مبدع (صاحب فكر مجدد):
إنسان الحضارة ليس بالإنسان النمطي، المقلد، التابع، الرتيب. إنسان الحضارة هو ذاك الذي ارتوت عروقه بدماء التجديد والابتكار والإبداع حين تسامى بروحه فتسامت معه ممكناته وانطلق فكره ليتحف ويجدد، إنه إنسان لا يخضع عقله للأفكار القديمة دون نقد أو تمحيص، إنه إنسان لا يكتفي بما وجد عليه آباءه الأولون بل إنه دائم الإعمال لعقله، مجدد في فكره وفعله.. هذا الإبداع الذي يتصف به إنسان الحضارة يكون نتيجة التهيئة المناخية له، وإننا لنجد في الحضارة الإسلامية أروع النماذج الإبداعية من عقول فذة جددت الفكر وأبدعت فيه، مثل: “الغزالي وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسيبويه، والكندي، والفارابي، وابن رشد، وغيرهم ممن اختلفت أوطانعم وتباينت جذورهم  وقدمت من خلالهم الحضارة الإسلامية إلى الإنسانية أروع نتاج الفكر الإنساني.
و كيف لا نجد مثل هذه النماذج وغيرها في حضارة يقول مؤسسها-صلوات ربي عليه- في الحديث المتفق عليه، “إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر”! فكان فتح باب الاجتهاد من أهم المبادئ التي فتحت باب إعمال العقل، أزالت هاجس الخوف من الخطأ، فأطلقت مكامن الإبداع في الحضارة الإسلامية.
  • الصفة الرابعة: ذوّاق (حامل للجمال):
الذوق الجمالي هو توأم الإبداع، وهما رفيقان في كيان إنسان الحضارة. ولقد تنبه مالك بن نبي للدور الحضاري الذي تلعبه النزعة الجمالية في كيان إنسان الحضارة حيث قال: “لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل أو بالأفكار الكبيرة، فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالا أقبح، والمجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة، لابد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره وأعماله ومساعيه”. ولهذا لا يمكن لإنسان الحضارة إلا أن يكون ذوّاقا تطبع في خياله صور الجمال قبل أن يطبع حضارته بها، كما أن صور الجمال في حضارته تطبع خياله ليزيد الجمال جمالا فيرتقي بذائقته وبالتالي بحضارته، إنها علاقة مركبة وضرورية  تلك التي توجد بين الجمال وإنسان الحضارة، ولذلك لابد له من أن يكون ” ذوّاقـا”!
نجد في الحضارة الإسلامية أمثلة الجمال لا تعد ولا تحصى، وهي لم تكن تقف عند زخارف المآذن والصوامع والقباب والقناطر، بل يظهر الحس الجمالي حتى في الابتكارات الميكانيكية وغيرها حيث لم تخلُ من اللمسات الجمالية التي طبعت إنسان الحضارة الإسلامية..
فإذا كان إنسان الحضارة عموما لا يعدو عن كونه مفكرا أو عالما أو فنانا.. فإنه لن يستغني عن الجمال كي يطبع به فكره أو علمه أو فنه، وكلما ارتقت ذائقته..ارتقى معها إنتاجه الحضاري!
  • الصفة الخامسة: فعّال (صاحب منطق عملي إنتاجي):
الفعّالية هي صفة لصيقة بالبناء الحضاري، ولا يمكن لإنسان الحضارة إلا أن يتصف بها. فهي التي تترجم الفكر الحضاري إلى واقع حضاري، وبدونها لا يمكن الحديث عن حضارة. وكما يصف ابن نبي الفعالية فإنها ” نتاج حالة خاصة من التوتر، توتر في الضمير، أي توتر أخلاقي واقتصادي وعلمي ونفسي… وهو حالة نفسية اجتماعية دلّ التاريخ على أنها تنشأ في ظروف معينة، تكون فيها المبررات التي تكوِّن الدوافع الإنسانية التي تدفع النشاط إلى أعلى قمته”[iv].
فهذا التوتر الذي تطبعه الفكرة في النفس فيخرجها من الفتور هو الذي جعل عمار بن ياسر في التجربة الإسلامية مثلا ينقل حجرين بدل الحجر الواحد أثناء بناء المسجد النبوي، وهو الذي جعل “استاخانوف” في التجربة الماركسية ينتج عشرة أطنان من الفحم بدل الخمسة التي ينتجها زملاؤه ، وهو الذي جعل ألمانيا تنهض من العدم بعد الحرب العالمية الثانية [v].
و لعلي أكون قد وفقت في اختيار صفات إنسان الحضارة بشكل يتناسب وطبيعة الإنسان وطبيعة الحضارة المركبتين، بحث لم أغفل النسق الشمولي الذي يتمتع به إنسان الحضارة.
ألخص هذه الصفات إذا في خطاطة أقرب للوضوح في التصور الذهني:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
[i]  مفهوم التكديس يطلقه بن نبي على عناصر الحضارة؛ الإنسان، التراب والوقت، عندما لا يتم استغلالها من أجل البناء الحضاري.
[ii]  انظر قوانين النهضة، القواعد الإستراتيجية في الصراع والتدافع الحضاري|الدكتور جاسم سلطان. الصفحة رقم 13.
[iii]  أنظر “شروط النهضة” لمالك بن نبي، الصفحة رقم 75| الطبعة الثانية.
[iv]  نقلا عن عمر عبيد حسنة، من بحثه “الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري*أنموذج مالك بن نبي”.
[v]  هذه الأمثلة نقلتها من نفس البحث آنف الذكر بتصرف.

الرابط :http://feker.net/ar/2012/06/25/11508/