لم أشعر في فترة من حياتي بهذه الرغبة التي تنتابني اليوم، في أن أحمل تراب الوطن بين كفي، أتنفسه، أقبله، و أعيده كرّة أخرى إلى الأرض، مشتهية في ذات الآن فسيلة أغرسها، و أحنو عليها إلى أن تكبر..
إنها مناسبات قليلة.. تلك التي نستحضر فيها نشوة الانتماء فرحا، و كثيرة الأخر التي تمر، يكون الانتماء فيها حاضرا و لكن حزنا و كمدا على هذا المـنـتـمى إليه..
الوطن الذي لا يسكنك لن تسكنه. و لذلك، أغلب المواطنين هجروا الوطن في دواخلهم حين خذلهم ، فكان الخيط الرفيع الذي يفصل بين" هاد المغريب ما بقا فيه ما يدار" و بين "المغرب أجمل بلد في العالم"، هو نفس الخيط الرفيع الذي يفصل بين الحلم و الحقيقة ، بين الوطن الذي يسكننا و لا نسكنه، و الوطن الذي نسكنه و لا يسكننا..
مغربية أجل، هنا ولدت و لعبت و كبرت و أكلت و شربت و درست.. و هنا أعيش حياة آمنة مستقرة لا يعكر صفوها سوى..هذا الوطن الذي يسكنني !ا
فالوطن الذي أسكنه، فيه منازل جميلة، و أسواق بها كل الخيرات، مدارس لا تمشي إليها على الأقدام مسافة جبل و هضبة و تل ، مصحات لا تحتاج فيها إلى شهادة الضعف كي تكون مواطنا يستحق العلاج المجاني حتى و لو بعد حين، وطن فيه –لحسن الحظ أم لسوئه- أشخاص يقدمون لك العون في كل ما لا يتيسر من أمورك الإدارية، حقوقك الوطنية لأنها في الغالب لا تتيسر إلا عن طريقهم.
لكن الوطن الذي يسكنني فيه صفيح و عراء، فيه جوع و قمامة، فيه مغرب غير نافع لا يعرف الماء و لا الكهرباء و لا المستشفى و لا المدرسة، و فيه شباب يملك قدرات تؤهله كي يكون في مختبرات علمية..و لا يملك الفرصة حتى ليكون بائعا متجولا في الشوارع الرسمية، فيه فتيات يبعن شرفا من أجل لقمة، و فيه سجون تخفي ألما لا نستطيع حتى سماع رواية فصل من فصوله.. هذا الوطن الذي يسكنني فيه كفاءات نسمع عنها من خارجه، بينما يعتبره العالم وطنا من الدرجة الثالثة.
و لهذا صرخ أناس من أجل الوطن الذي يسكنهم،
و آخرون أيضا صرخوا..من أجل الوطن الذي يسكنونه
قالوا في الأولى : أيا سرّاقا لأحلامنا كفى، أطبقنا صمتا امتهنتم خلاله أكل لحومنا حتى اعتقدنا أن لحومنا حلال أكلها ، و هو كذلك في شريعتكم، اتركوا الحلم فينا يكبر، و اتركوا الوطن الذي يسكننا نسكنه و نقطع الخيط الرفيع الذي كرستموه جدارا.. !!ا
فقال الآخرون: أصمتوا أيا عقّـاق الوطن، تهزون استقرار الآمنين ، و تتطاولون على أسيادكم الناعمين، و لا تعرفون أن ما بنا من شقاء إنما هو الفدا..فلزموا الفدا كما كنتم صمتا و لا تعكروا صفوا الشعب الطّاعـِم الكاسي من أجل قلة لم تغير ما بأنفسها كي يغير الله حالها يوما
بين الصرختين ، أطبقت مصغية..
فلم أشعر في فترة من حياتي بهذه الرغبة التي تنتابني اليوم، في أن أحمل تراب الوطن بين كفي، أتنفسه، أقبله، و أعيده كرّة أخرى إلى الأرض، مشتهية في ذات الآن فسيلة أغرسها، و أحنو عليها إلى أن تكبر..