عندما تسقط فتجزم ألاّ نهوض، وتنزل لدرجة يصعب معها الصعود، فلا تجد لنفسك عزما، و لا قوة و لا فهما،، هنا.. تقرر ألاّ تعود، و توقن بانتهاكك للعهود، فتولي الأدبار تاركا، النور إذ أصبح خافتا، فتدفن قلبك الذي مات، و تشتغل أنت بالتفاهات، و لكن القلب المدفون تحرك، فنفض عنه التراب و استدرك، فبرز سر واحد جبار، ينقذ القلوب قبل أن تنهار ..انه الإصرار. إصرار رغم الخطأ و الزلة، إصرار رغم الهوان و الذلة! إصرار حتى الوصول، إصرار حتى القبول..

الأحد، 15 أبريل 2012

"""

http://www.aljazeeratalk.net/node/9115


نَدى الفِكْر .. قَطراتُ السّدِّ المَنِيع
بين البناء و التجميع: المسيري أنموذجاً
بقلم/ سهام أمسغرو







في كل مرة تَتَجمّع فيها حبيبات الندى لتشكل تلك القطرة المتدلية من أهداب الزهر لدرجة تغريك معها بأن تمد يدك كي تلقّــفَها.. فيتشَرّبُها جلدك لتبُـثّ فيه بِضعًا من حياة،  فاعْلَم أنهّا بَنَتْ في روحك حسّا خفيا لا يكاد يرى له أثرا ! فآه لو أنك عرّضت لها وعاءً أسفل منها فيمتلئ قِطْرًا ندِيّا على مهلٍ يسقي الروح بأتمّها، فيكتمل بناء الحِس، و يستحيل بضع الحياة حياةً كاملة !
 وكذلك هي خيالات الأفكار.. إذا ما تجمعت لتنشئ فكرة –كبيرة كانت أم صغيرة- فإنها تلقي بلبنةٍ في بنائك الفكري، لبنة قد تـبْـنِي رُفقة لبناتٍ أخرى سورًا مائلا ،أو سقفا أعوجا، أو بيتا هشا، إذا لم تهيئ لها الإطار الهندسي الملائم لتشييد بناء صلب متين يستثمر كل طوبة في موقعها الصحيح. إنه الوعاء في حال قطرات الندى، الذي جعل من جَمعِ الحُبيبات جمعًا للقطرات.. بل، وكذلك مياه الأمطار، قد تتجمع في حفرة و قد تتجمع في نَهَر، وقد تتجمع وسط الزرع فتهلكه بدل أن تحييه !  وما جعلت السدود إلا بمثابة الوعاء أو البناء الذي يحفظها ويجعلها قابلة للنفع و الاستغلال.
 ومن هنا، كان ضروريا للإنسان أن يشيد سدا منيعا يجمع شتات فكره المتهاطل، جمعًا يجعله منتفِعًا ونافِعًا بخلاصاته الفكرية، تراكماته المعرفية، و ليس مجرد جمعٍ لا يُعْلِي سقفا و لا يُنبت زرعا..
و يا لعظمة ذلك الإنسان، الذي يشيد فكره من شتات القراءات و التجارب و المعارف، تشييد من حوَّط السد أولاً،  وأنشأ القنوات التي تجعل من فكره صيبا نافعا يسقي الحرث والنسل،  مُتحليا بعبق قطرات الندى، صابرا على بُطئِ وُرُودها مُتأنّيـَا.. فيؤتي أكله كلّ حين ! 
 

ولذلك، تكون عملية التجميع مفيدة إذا ما قرنت بعملية البناء، فالتجميع لا يغني أبدا عن إيجاد الوعاء الذي يصب فيه تلك المعارف المجمّعة، بل أكثر من ذلك، فهو يختارها بعناية قبل تجميعها، فهذا الوعاء يشكل الإطار المنهجي التي ينقح و يفرز و يُوجّه و يسدد و يقارب. إنه  يرصّ اللبنات رصا متناسقا ينتج عنه فكر  واضح. فكر من شأنه أن يُخرج لنا من عالم الأفكار إلى عالم الواقع نتائج ملموسة من إبداع عَمَلي يحقق تغييرا واقعياً . فبناء الحياة ما هو في الحقيقة إلا بناء للفكر ، وإنه لمن المؤسف حقا أن يضيع الإنسان جهده في تجميع للأفكار والمعارف بشكل عشوائي لا يفضي الى بناء فكري حقيقي يقود إلى بناء للحياة..!


بين البناء و التجميع: المسيري أنموذجاً


 ولقد تحدث د.عبد الوهاب المسيري عن ثلاث ذئاب هاجمته في حياته الفكرية قبل أن يُسيْطر عليها[i]، من بينها الذئب الهيجيلي المعلوماتي الذي يجعل الإنسان يستغرق في البحث عن المعلومات بشكل تفصيلي إلى أن ينهش هذا الذئب صاحبه دون الوصول إلى ما لانهاية، و لقد لخص إشكالية التجميع الغير ممنهج عندما تحدث عن بعض ضحاياها قائلا:
"فبعضهم يحشد التعميمات التي لا يربطها رابط (أسميها "أفكاراً" في مقابل فكر) ،والبعض الآخر يحشد المعلومات التي لا يربطها رابط أيضا.." [ii]
كما أن في اعتماده على الباحثين من أجل عملية تجميع المعلومات، ليتمكن هو من الانتاج الفكري خصوصا في انجازه للموسوعة، نموذج رائع للبناء الفكري الذكي الذي يخلف أثرا واضحا .. ولذلك كان يدعو النقاد دائما –كما يقول- إلى "رؤية ما يكتب في إطار معرفي تحليلي يتجاوز الإطار المعلوماتي التراكمي"[iii].

ولهذا، فما الفكر إلا ندى لن تزهوَ الحياة بعبقه إلا بتجميع  قطراته في سد منيع !





[i] الذئب الأول و الثاني هما:الثروة والشهرة
[ii] أنظر "رحلتي الفكرية، في البذور والجذور والثمر" ص: 171
[iii] أنظرنفس المرجع السابق:، ص: 573

السبت، 7 أبريل 2012

عَلى حافّة الموضوعية.. هاوِية الهَوى !




إنّ التفكير الموضوعي هو إعمالٌ للعقل بطريقة ينتج عنها فكر متوازن عميق لا يخضع لمؤثرات غير المنطق السليم و الحجة الدامغة و الرغبة الصادقة في طلب الحق. و من هنا كان ضروريا أن يُشكل التجرد من الهوى – بصفته واحدا من أهم هذه المؤثرات - عنصرا أساسيا في بناء الموضوعية الفكرية. إنه تخليص للإدراك العقلي من شوائبٍ قد تحول دون  إقرار الإنسان بالفكرة السليمة ليس لشيء سوى لأنها لا تتماشى مع مزاجه أو شهوته أو هوى نفسه، وكما قال مصطفى السباعي: أكثر ضلال الناس من أهوائهم لا من عقولهم !

فعندما يقول رب العزة في كتابه الحكيم: {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم} فهو يكشف حقيقة قرار المشركين عندما اختاروا الإعراض عن طريق الإيمان. إنهم لم يرفضوه نتيجة اقتناع  بـ" علم"، وإنما كان رفضهم  نتيجة اتباع لأهوائهم الشخصية.. و لذلك فإن المشركين عندما كانوا يغلقون آذانهم كي لا يستمعوا إلى كلام الله المرتل بصوت نبيه الكريم فإنهم لم يعرضوا لأن فحوى الدعوة المحمدية لم يرقَ إلى قناعاتهم العقلية، فهم لم  يطلعوا عليه أساسا، ولكنهم رفضوه لأنهم لم يتجردوا من أهوائهم التي لا تقبل التغيير و تفضل المكوث في العقلية التي كان عليها آباؤهم.

 و إذا نظرنا إلى فرعون، أولم يكن يصِرُّ على لعب دور الإله حتى آخر لحظة تبين له فيها زيف عرشه الذي اصطنعه هواه؟ ،بل أوليس الحاكم العربي اليوم يعيش في عزلة فكرية نسجت شباكها شهوة السلطة فتعارضت مع كل المعطيات الواقعية الموضوعية  فأودت به إلى ما نراه اليوم !؟
أوليس الرأي الدولي الذي يتفرج على المجازر السورية محكوما بهوى المصالح التي  تجعل من الدماء المسفوكة رخيصة إلى هذا الحد؟ أوليست القضية الفلسطينية خاضعة لنفس المعايير من قبل؟ ! 

إن خطورة عدم التجرد من الهوى تكمن في لحظة الحسم بين أفكارٍ تحتاج إلى إعمال العقل المبني على الاستدلال و الحجة و البرهان، فيأتي الهوى بحُجبِه ليصرف الفكر عن كل ذاك ليتربع هو على عرش القرار، فيهلك صاحبه بِردِّه عن الحق و طرحه في براثين الضلال،  وكما قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: "و صاحب الهوى يعميه الهوى و يصمه"

و الحقيقة أن كل فكرة تُطرح في ميزان الموضوعية فهي تحتاج لتجرد من الهوى، و هذا أمر عسير إلا على من صدق في طلب الحق، و أخلص في تمحيص الرؤية ! لأن الشهوة قد تتلبس أحيانا بلباس العقل بحيث تقدم مبررات تحت مسمى المنطق، و لكن لا يخضع لتأثيرها من قدّم الحق على ما سواه و رغب في الوصول إليه متجردا له، فالصدق و التحري في خبايا النفس و اتهامها إلى حين ثبوت براءتها من مراوغاتها المشبوهة التي تبغي بها التحايل على العقل هو السبيل للنجاة من هاوية الهوى.. 
ومن النماذج المبهرة لهذا التمحيص من أجل التجرد من الهوى قصة سيدنا علي في إحدى المعارك، عندما همّ بقتل أحد المشركين، فبصق فيوجهه، فتركه، فسأله: "لما لم تقتلني؟" فأجابه: " كنت سأقتلك لله، أما و قد بصقت عليك كنت سأقتلك لنفسي، فعفوت "فهل لنا بيقظة تلتقط الهوى كتلك !