عندما تسقط فتجزم ألاّ نهوض، وتنزل لدرجة يصعب معها الصعود، فلا تجد لنفسك عزما، و لا قوة و لا فهما،، هنا.. تقرر ألاّ تعود، و توقن بانتهاكك للعهود، فتولي الأدبار تاركا، النور إذ أصبح خافتا، فتدفن قلبك الذي مات، و تشتغل أنت بالتفاهات، و لكن القلب المدفون تحرك، فنفض عنه التراب و استدرك، فبرز سر واحد جبار، ينقذ القلوب قبل أن تنهار ..انه الإصرار. إصرار رغم الخطأ و الزلة، إصرار رغم الهوان و الذلة! إصرار حتى الوصول، إصرار حتى القبول..

السبت، 12 نوفمبر 2011

الاستلهام الحضاري استلهام للهوية!





هناك من لا ينطق بالحديث عن الحضارة إلا وتجده متحدثًا عن النموذج الغربي بصيغة توحي بحتمية استلهامه في أي بناء حضاري، و في الحقيقة أجد منطق هؤلاء يشبه منطق فتاة تعاني من البدانة منبهرة برشاقة صديقتها، اختارت كحل لبدانتها أن تخيط ثوبا بمقاسات صديقتها الرشيقة وليس بمقاساتها هي، بدل أن تفكر في كيفية إيجاد حل لإنقاص وزنها، فلا هي بذلك حاكت ثوبا يناسبها، ولا عالجت مشكل البدانة عندها!
لقد أحسن مالك بن نبي عندما صنف الأفكار التي يستعيرها الإنسان من ثقافة أخرى و يتبناها و يقلدها ضمن “الأفكار القاتلة” و كما قال: “لا يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشيّد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج”. إن هذه الفكرة في حد ذاتها عقبة في طريق أي بناء حضاري، فهي تجمع بين الانبهار بالآخر و الضعف في تقييم الذات و الخلل في فهم مقومات الحضارة.
لا شك أن الحضارة الأوروبية حققت الكثير من التقدم العلمي و التكنولوجي و الصناعي، و لا شك أنها تعيش حالة من التمدن الذي يكفل للمواطن الراحة و الرفاهية الكافية من أجل عيش كريم، لكنه ليس بالخفي أن هذه الحضارة فارغة تماما من أي قيم أخلاقية معنوية، و بقدر ما تتقدم في عالم المادة فهي تنحدر في عالم الروح، و بقدر ما تنشأ المصانع و المعامل فإنها تنشأ دور المسنين و مراكز علاج الإدمان.. فهي تبني المدينة و تهدم المجتمع، تشيد الاسمنت و تهدم الإنسان.
في المقابل، نجد أنه في عالمنا العربي والإسلامي، يفصلنا عن الحضارة الأوروبية أشواط كبيرة في مجال البناء المادي، في ذات الوقت الذي نفتقد فيه انتمائنا لذواتنا و هوياتنا و لقيمنا الدينية الأخلاقية، و هذا الوضع هو الذي جعل الكثيرين يخضعون لهذه الحالة من التأثر و الانبهار بالحضارة الغربية و ينادون بتبني خطواتها من أجل السير في طريق التحضر كأنه لا يوجد طريق سواه. إنه الخواء ما يجعل الانبهار بالزخرف ممكنا !
فعندما نجد مثل هذا الانبهار الجارف الذي لا يُلتفَت فيه إلى النفس بقدر ما ُيلتفت فيه إلى الآخر، فإننا نعاني من ضعف في تقييم الذات، إننا لا نفقه أننا نحمل جذور حضارة بداخلنا تفوقت بكثير على هذه الحضارة العرجاء التي تغري أنفسنا بالانجراف نحوها، إننا نطمس كل القدرات المتوفرة لدينا و التي تميزنا و نريد أن نستورد أخرى ليست على مقاسنا، إننا بذلك نحتقر أنفسنا و نحكم على أنفسنا بمنزلة التبّع و نحرمها من مراكز القيادة..عندما نفكر في استلهام النموذج الغربي كطريق حتمي للبناء الحضاري، فإننا ننكر ذواتنا، و لا نحسن الاستماع إلى أصواتنا الداخلية التي تصرخ قائلة، إن الحضارة هنا .. فقط نقب عنها و ضع لنفسك من خلال نفسك خطة و طريقا.. !
يقول مالك بن نبي: “مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته. ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها” ولذلك فالحضارة هي حالة من الارتقاء في سلم التاريخ الإنساني تحدث في مجتمع ما، من خلال مجموع النظم المادية و القيم المعنوية التي يسير وفقها و التي يتميز بها عن غيره من المجتمعات. فهي ليست شيئا مستوردا، و لكنها رقي ينطلق من مقومات المجتمع و خصوصياته الذاتية. و بالتالي فإن محاولة الاستلهام الحضاري هي فكرة خارج سياق مفهوم البناء الحضاري طالما أنه دخل دائرة التقليد و فقد الخصوصية الذاتية. و لهذا أعتقد أن من يتحدث عن هذا الاستلهام يعاني من خلل في فهم الحضارة من أساسه، و يحصرها في مفهوم ضيق ساذج ينم عن انبهار بالبناء المادي السطحي دونما إدراك لماهية الحضارة و عمقها الحقيقي.. إن الحضارة قبل كل شيء “هوية”، فهل يمكن استلهام الهوية؟